نظرية الحِجــاج
الحِجــاج في اللغـــة:
الحجاج ينتمي إلى مجال معرفي واسع يشمل البرهان والدليل والجدل، ويعرف الحجاج لغويًا بأنه مجموعة من الحجج التي يؤتى بها للبرهان على رأي أو إبطاله؛ أي أن الحجاج يعني استخدام كل وسائل الإقناع باستثناء العنف والضغط والإكراه. وقد جاء في لسان العرب لـ ابن منظور:" يقال حاجَجْتُه أحاجُّه حِجاجًا حتى حَجَجْتُه، أي غلَبته بالحُجَج ألتي أدْلَيتُ بها، والحجَّة الـبُرهان. وجمـع الحُجَّة: حُجَـجٌ وحِجاجٌ، وقد قال الله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيـمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ ..﴾.
أما معنى الحجـاج عند الغرب فيقابل لفظه في الفرنسية لفظة Argumentation" التي تدل على معانٍ متقاربة؛ أبرزها: القيام باستعمال الحجج التي تستهدف تحقيق نتيجة واحدة. أما في الإنجليزية فيشير لفظ "Argue" إلى وجود اختلاف بين طرفين، ومحاولة كل منهما إقناع الآخر بوجهة نظره؛ بتقديم الأسباب أو العلل "Reasons"التي تكـون الحجة "Argument"مع أو ضد فكرة أو رأي أو سلوك ما.
الحجـاج في الاصطلاح:
مفهوم الحجاج يصعب تحديده اصطلاحيًا؛ لأنه من المفاهيم الملتبسة، وقد تجلى الحجاج عند العرب من خلال ما عرف عن المسلمين منذ بداية أمرهم من ممارسة علم الحجاج وفن الجدل، وينسب لـ "الجاحظ" أنه أسس ما عُرف عند البلاغيين (بالمذهب الكلامي) الذي يعني: إيراد الحجة للمطلوب على طريقة أهـل الكلام، واهتم في هذا المذهب بالجانب الحجاجي؛ فـ الجاحظ كان متكلمًا قوي الحجة، قادرًا على الإقناع. فالحجاج كلمة لغوية فلسفية تعني توجيه الخطاب إلى متلقٍ ما لتعديل رأيه أو سلـوكه، أو هما معًا، وينظر للحجاج على أنه فعالية تداولية جدلية؛ تداولي لأن طابعه الفكري مقاميٌّ واجتماعيّ؛ إذ يأخذ في الاعتبار مقتضيات الحال، وهو أيضًا جدلي؛ لأن هدفه إقناعي، فالإقناع هنا لا يكتسي صبغة الإكراه؛ فالمتلقي إذا لم يقتنع رد القول إلى قائله.
الحجاج في الفكر العربي:
جاء ذكر التحاج في القرآن بمختلف معانيه، ولم يخلُ منه الحديث النبوي الشريف أيضًا؛ فقد ورد في السنة إشارات كثيرة توجه إلى ضرورة اتباع الحوار المقنع مع الناس، ومن أوضح ما يُستدل به من السنة النبويــة ما ورد عن النبي (صلِ اللهم عليه وسلم) فيما رواه سيدنا أبو هريرة (رضي الله عنه) حين جاءه من ينكر لون ابنه قائلاً: "يا رسول الله، ولد لي غلام أسود! فقال: "هل لك من إبل؟" قال: نعم، قال: "ما ألوانــها؟" قال: حمر. قال: "هل فيهـا مِن أورق؟" قال: نعم، قال: "فأنى ذلك؟" قال: لعل نزعة عرق، قال:" فلعل ابنك هذا نَزَعَة".
من هذه المرجعية، ومن تراث الإنسانية المشترك راح المسلمون يحاور بعضهم بعضًا ويناظر بحثًا عن مخارج لما أشكل من قضايا وما استجد. والحجاج نشأ في الشعر والخطابة في عصر ما قبل الإسلام؛ أي أن منشأه الشعر العربي والخطابة العربية، وجاء القرآن الكريم ليرسخ تلك الصفة عند العرب. وقد أولى العربُ الحجاجَ عنايةً كبيرة، فلا تكاد كتب التراث العربي الإسلامي تخلو من تداول مصطلح الحجاج أو الاحتجاج أو المحاجة، لاسيما في المسائـل ذات الطابـع الفكري والفلسفي التي يكثر فيها الخلاف ووجهـات النظـر والتأويل. فهو يضرب بجذور قوية وعميقة في الخطاب العربي بكل أنواعه، لكنه جاء بصفة الممارسة وليس بصفته نظرية لغوية، وكان هدفه الإقناع والتواصل.
مفهوم الحجاج في الفكر الغربي القديم:
في الفكر الغربي القديم نخص بالذكر "أرسطو" الذي قدم مفهومًا للحجاج يجعله قاسمًا مشتركًا بين الخطابة والجدل؛ ذلك أن الخطابة بالمفهوم اليوناني هي فن الإقناع عن طريق الخطاب، وأن الوظيفة الإقناعية هي وظيفتها الأولى والأساسية؛ أي أن الحجاج عند "أرسطو" يتمثل في فن الإقناع، أو مجموع التقنيات التي تحمـل المتلقي على الإقناع أو الإذعان. ومادة الحجاج وفق "أرسطو" هي الأفعال الإنسانية والمصالح الإنسانية، وكان "أرسطو" ينطلق من كون الخطابة إنما هي الكشف عن الطرق الممكنة للإقناع.
هذا الإقناع يتوقف عند "أرسطو" على ثلاثة أركان أو ثلاثة مستويات من الحجج؛ هي:
1ـــ الإيتــوس:
قصد به أخلاق القائـل، ووصف فيه الخصائص المتعلقة بالخطيب وكيف ينبغي أن يكون موضع ثقة عند المتلقي. فــ "أرسطو" يرى أن الخطيب يُقنع بالأخلاق عن طريق ما يقوله لا عن طريق ما يظنه الناس عن خلقه قبل أن يتكلم.
2ـــ الباتــوس:
قصد به تهيئة الحالـة النفسيـة للسامع. فأحكامنا حين نكون مسرورين ليست نفسها حين نكون مغمومين؛ وبناءً على هذا يشترط "أرسطو" أن يكون الخطيب قادرًا على فهم الانفعالات، وأن يسميها ويصفها ويعرف أسبابها والطرق التي تثير تلك الانفعالات، فبعث البلاغة بدون العناية بالمتلقي وأبعاده السيكلوجية والنفسية والثقافية والإيديولوجية عمل بالغ التقصير.
3ـــ اللوقـوس:
أو اللوغوس؛ وقصد به القول نفسه وما يحويه من سياسة قولية تعتمد على وجوه الاستدلال المتمثل في القياس والاستقراء، فالإقناع يحدث عن الكلام نفسه.
مفهوم الحجــاج في الفكر الغربي الحديـث:
أما في الفكر الغربي الحديـث فنجد الباحث البلجيكي "بيرلمان" يطلق مصطلح (البلاغة الجديدة) (The new rhetoric) (سنة 1958م) على دراسة الحجاج (Argumentation)، وتوصل إلى أن الحجاج سلسلة من الحُجج تنتهي بشكل كلي إلى تأكيد النتيجة نفسها، ولعله نصَّ هنا على كونه أسلوبًا تنظيميًا في عرض الحجج وبنائها وتوجيهها نحو هدف معين يكون عادة التأثير والإقناع غايته، فتكـون الحجة في سياق هذا الغرض بمثابة الدليل على الصحة أو على الدحض،
فالحجاج عملية اتصالية دعامتها الحجة المنطقية لإقناع الآخرين والتأثير فيهم. والمحرك لهذه الوظيفة هو الاختلاف بين المخاطَبـين؛ فلا يكون الحجـاج فيما هو يقيني أو إلزامي، ولا يكون أبدًا في موضع يسمح له بادعاء اليقين، ولا جدوى من الحجاج ضد ما هو يقيني، فالحجاج لا يتدخل إلا في الحالات التي يكون فيها اليقين موضع طعن، ولا يقتصر على ما هو عقلي فقط، وإنما يتطرق إلى الحس والشعور؛ لذا نجد الحجاج في الشعر الغارق في الرومانتيكية، كما نجده في الشعر الذي ينحو منحى المقارعة للخصم حين التفاخر أو الهجاء أو الانتصار لفصيل أو حزب معين.
أما الحجاج عند اللساني الفرنسي "أوزفالد ديكرو" وزميله "جون كلود أونسكومبر"، فالحجاج عندهما يقوم على أساس اللغة، وعرض الحجاج بطريقة مختلفة عن الحجاج عند "بيرلمان"، فهـو حجاج يقـوم على اللغة بالأساس، بل يكمن فيها، بينما عرف "بيرلمان" الحجاج باعتباره مجموعة من أساليب وتقنيـات في الخطاب تكون شبه منطقية أو شكلية أو رياضية، وأن الحجاج باللغة يجعل الأقوال تتابع وتترابط على نحو دقيق، فتكون بعضها حججًا تدعم وتثبت بعضها الآخر؛ أي أن المتكلم إنما يجعل قولاً ما حجة لقول آخر وذلك على نحو صريح واضح أو بشكل ضمني.
بمعنى آخر؛ أن المتكلم قد يصرح بالنتيجة وقد يخفيها، فيكون على المتلقي استنتاجها، لا من مضمون هذه الأقوال الإخبارية، وإنما اعتمادًا على بنيتهـا اللغوية فحسب. ومجمل القول: إن الحجاج عند الفلاسفة واللغويين هو كل ما اشتمل عليه الخطاب من آليات أو استراتيجيات بغرض الإقناع أو الانتصار، وأن المتكلم يتكلم عامة بغرض التأثير والإفحام لقد كان للتطور العلمي لمبحث اللغة وتدهور فن البلاغة انعكاسات على الحياة الاجتماعية؛ حيث تصلبت الحداثة وفقدت قيمها الإنسانية وأعلنت الفلسفة المعاصرة موت المعنى، وتفـوق العلم على الأخلاق، وانتصار العقل الأداتي على العقل القيمي، ومن هنا ظهرت نظرية الحجاج التي تُعد من أبرز النظريات التي حظيت باهتمام الباحثين في الدرس النقدي الحديث.
الحِجاج وسيلة نشر السلام:
أكاد أجزم أن مفهوم الحجاج قد ارتبط وجوده بوجود الإنسان ذاته؛ فما من شك أن جُلَّ حياة الإنسان منافحةٌ ومنافسة وصراع وحجاج يواكب هذا الصراع ويسانده، والتنافس بطبيعته موجودٌ بين البشر، وفي معظم البيئات، لذلك فإن ترْكَهُ بفطرته الطبيعية من أسلم الأمور، بالاستناد على أساليب وأدوات ممنهجة، ومن تلك الأساليبِ والأدوات أسلوب الحجاج الذي يقنع الآخر ويسالمه ولا يعاديه، تنافس في إثبات الحجةِ الأحقِ بالقبول، فإن ثبتت فلا مناص من التسليم لها في جوٍ من السلم والإذعان.
فالحجاج له قيمة وأهمية كبيرة؛ فهو يمثل مجالاً من النشاط اللغـوي الذي شد إليه الأنظار على مر العصور منذ بلاغة القدامى حتى يومنا هذا، فهو طريقة لتقديم الحجج والاستفـادة منها، وما يمكن استخلاصه من تعريفات الحجاج في مختلف الثقافات الإنسانية هو أن العملية التواصلية بين البشر بجميع أشكالها التعارفية أو التنافسية الناتجة عن التدافع الفكري أو المذهبي أو الصراع بين المصالح أو الخلاف حول السلطة قاسم مشترك بين تلك الثقافات، وأداة منهجية لها قواعدها وأدبياتها وحدودها الأدبية والأخلاقية لا يمكن الاستغناء عنها في الحوار والتناظر، بل يجب الالتزام بها؛ لذا عد الحجاج علمًا من أرفع العلوم وأعظمها شأنًا؛
فالحجاج وسيلة نشر السلام بإقناع الفكر الذي يحفز على العمل والإنجاز في جو من القبول لا الرفض، وتلك الوسيلة تترسم في أشكالها المختلفة وقنواتها المتنوعة، وليس أنجع في بلوغ الهدف من القنوات الأدبية التي تتخذ من الكلمة سلاحًا لتقويم المعوج من الفكر أو العقيدة أو الأخلاق؛ لأنه السبيل لتمييز الحق من الباطل، ولولا تصحيح الوضع في الجدل لما قامت حجة، ولا اتضحت محجة، ولا علم الصحيح من السقيم، ولا المعوج من المستقيم.
.
...منال