تجربتي الأولى في التحليل
"تحليل سيميائي"
رأيكم يهمني 😊
.
هذه القصيدة للشاعر السوري (مهند حليمة) رحمه الله ، من الشعراء المعاصرين المبدعين في مجال الشعر العمودي، وسأعتمد التحليل السيميائي للصورة الشعرية في القصيدة، لتغوص في أعماقه وتستكشف مدلولاته المحتملة.
القصـــيدة:
"وجْـهــــًا لوجــــه"
ووقفتُ عندي وانتزعتُ لِثامي
ما كانَ سهلاً أن أكونَ أمامي
وجهًا لوجهٍ والمسافةُ بيننا
قلبي الجريحُ ومِبضعُ الايامِ
صافحتُني وعيونُ يعقوبي تقيـ
سُ مواجعي بالحزنُ والآلام
ساءلتُني مَن أنت؟ ردَّ بحرقةٍ
أنا يا ظلومُ حُطامكَ المترامي
أتُرى ظلمتك ؟ لم يكن حُكمي شديـ
دًا كنتُ أحكمُ بالفؤاد الظامي
حقًا ظلمتك؟! وانحنى من أضلعي
قلبٌ تمزقَ غربةً بسهام
الحب؟! ما في الحبِّ كسرةُ خاطرٍ
ودموعُ مشتاقٍ وموتُ كلام
واسأل أولاتِ العشقِ كيف خذلنني
وملأنها زبَدًا كؤوسُ مُدامي
حتى أنا أحببتُ نفسي مرةً
فأبتْ تحنُّ وأنكرتْ أيامي
يا أيها المسجون قل لزليختي
إنــي وحـــقِ الله خَــــيرُ إمـام
ما كان للذنبِ الذي في داخلي
يعدو على حُلمي الأبي السامي
فأرحْ ضميركَ لستُ أخوةُ يوسفٍ
لكنها السبعُ العِجافُ أمامي
ماذا عنِ الوطنِ الذي غادرتهُ
غادرتهُ وضحكتُ مِن أوهامي
ما كان لي وطنٌ يموتُ بذلةٍ
ويباعُ باسمِ الحربِ للأقزام
وطني إلى (آنستُ) نورًا ينتمي
للتــــينِ للزيتـــونِ للأقــلام
وطني رؤىً وسنابلٌ تفسيرُها
لا تكفرُ الأوطانُ بالأحلام
ماذا عنِ الشعرِ الذي أحببتهُ؟
ما زلتُ أجمعُ في يديهِ رُكامي
أُحصِي على يدهِ المَنايا والمآ
سي واختناقَ الأرض بالألغام
أرسو على الجُودي فوقَ دفاتري
وأصيحُ باسم الحبِّ والإسلام
ما زلتُ أختصرُ المسافةَ بيننا
وأسنُّ مِن لغةِ المَجاز حُسامي
حتى وإنْ جـــاءوا بــدمٍّ كاذبٍ
فالشــعرُ يَبقى أجـملَ الآثام
...............................
التحليل السيميائي يركز على جانبين؛ الجانب الأول: الرمزية والدلالات، والجانب الثاني: ربط النص بالواقع. ويتداخل في الأمرين دراسة كل العلامات والأمارات التي لَها دلالات في النص من الأصوات، والكلمات، والأبنية الصرفية، والجمل والتراكيب، والفقرات، وأدوات الربط وأساليب الحذف، والتكرار، والحشو، والإطناب، والإيجاز، والاختصار، وأنواع الأصوات المختارة، ودلالاتها وترددها، ونقاط الحذف للدلالَة على المسكوت عنه، ونوع البحر الشعري أو التفعيلة، ومعجم الكلمات المنتقاة، ونوع الختام أو خلاصة الكلام.
فكل ما اتخذ في النص أداة لإيصال المعاني ومخاطبة القارئ أو البوح عن الذات فهو موضوع للدراسة السيميائية؛ ومن هنا سوف يسعى التحليل إلى الكشف عن سمات القصيدة من خلال الإبحار في هذه الجوانب، وفي معرض التحليل سيحاول البحثُ الكشف عن مدى تمكن الشاعر من تفجير طاقاته اللغوية التي تحدث الدهشة لدى المتلقي، وهل ينفتح النص على تأويلات كثيرة يلتقطها المتلقي كإشارات خاطفة أم لا تحتمل أكثر من تأويل.
إقرأ المزيد: علم العلامات .
أولاً: سيميائية العنوان:
للعنوان مكانته عند المؤلف، وربما وقف قليلاً عند صياغته؛ لأن العنوان هو مجمل القصيدة وماهيتها، وأول ما تلحظه العين وتتفاعل معه الحواس، وأول عتبات النص التي ترشد الناقد أو المتلقي إلى متن النص؛ ومن هنا نرى أهمية العنوان ؛ لأنه بنية مكونة من كليات خاصة تتناثر في متن القصيدة .
فالعنوان يمتلك خصوصية جمالية في التعريف المختصر عن النص الشعري، وهو علامة سيميائية تمارس فعل التدليل، فالشاعر على يقين بأن العنوان مجموعة من الدوال وإحدى العتبات الأولى للنص، بل والمشجعة للانخراط فيه واكتشاف دلالاته؛ لذلك يحاول المؤلف أن يعطي عنوانه مسحة فنية تبعد النص عن البنية السطحية للصورة الذهنية. فالعنوان لابد وأن يدخل بك إلى عوالم عديدة ومحطات كثيرة في هيكل النص بشكل مباشر أو غير مباشر؛ والدارس يطرح على نفسه عدة تساؤلات تجاه العنوان؛ هل العنوان مفتاح النص؟ وهل هو مأخوذ من المادة النصية؟ وما نوع الدلالات التي يحملها العنوان؟ ومم يتكون؟ أهو جملة أسمية أم فعلية؟
وهنا القصيدة بعنوان: ( وجهًا لوجه ) يتكون من مقطعين، أو اسمين يقومان على الإيجاز والحذف الذين يتبلوران في ذهن المتلقي على هيئة فعل محذوف تقديره ( وقفنا)، نعم، وقفنا وجهًا لوجه للمكاشفة، للعتاب، للمؤازرة قل ما شئت، إنهما مقطعان أجملا متن القصيدة بتفاصيلها، عنوان عرض صورة العلاقة بين الأنا والآخر، أو الأنا والأنا ذاته، ومع الانزياحات الدلالية التي تتكشف من متن القصيدة ترتسم الدهشة والانبهار حين يتكشف الآخر بصورة الأنا نفسه عن طريق المواجهة والمكاشفة . ففي القصيدة استخدم الشاعر خياله التجريدي الفلسفي العميق، حين جرد من نفسه صورة له ليتكاشفا، أو ليتعاتبا، أو ليفضفض كل منهما للآخر، فيتخفف البركان من حممه، ويهدأ قليلاً من ثورانه، ذلك الثوران الذي حمَّاه ثقل الجراح من طول انتظار العودة إلى الوطن وكسر قيود الاغتراب والعيش المشرد في كل بلد يحط برحله فيه.
في القصيدة نرى أن العنوان يتماهى مع روح النص ويؤكد فعاليته الجمالية حين يصنع في خيال المتلقي صورة ذهنية للشاعر مع نفسه كتوأم متماثل يقف أمام بعضهما البعض ليتكاشفا.
ثانيًا: سيميائية الأسماء:
استخدم الشاعر في القصيدة عدة أسماء أروع ما قيل من الأسماء في مواضعها، تنبعث جلها من ثقافته الدينية وقراءته للقرآن ، واللفظة الواحدة فيها تجمل الكثير من المعاني و الدلالات ؛ فقوله( لِثامي) فيه من فلسفة التجريد الحديثة التي تنبي عن المكاشفة والوضوح في لحظة سأم القلب تبريراته ليقنع نفسه بالصواب، هنا كشف اللثام ليواجه نفسه وأخطاءها ربما، أو ليحاسبها إن كانت على خطأ فترجع، وإن كانت على صواب فيثبت، بل يعضد من يدها لتستمر.
اما اسم (يعقوب)هنا غاية في الإبداع والصياغة للمعنى المبهر في موضعه، دلالة تنبيك عن المشابهة، مشابهة حال الشاعر المغترب بحال (يعقوب) عليه السلام ، حال من فقد الولد و(مِبضعُ الايامِ) في جنبيه، حال يجسد مقدار المواجع والآلام التي توشك أن تبيض عيناه من الحزن بها وهو كظيم .
أما (المسجون) ودلالتها السيميائية التي تشير إلى علاقة المشابهة مع (يوسف) عليه السلام، علاقة تجسد مدى الظلم الواقع على نفسه والألم جراءها، ظلم وقع من ظالم عاقب المظلوم لأنه شريف لم يرضخ لمطالبه وأصر أن يكون أبيض اليد موفور الحق، أما (السبعُ العِجافُ) فهي كل الظروف القاسية والأيام المتكالبة في استحكام الآلام، و(أخوةُ يوسفٍ ) رمز الكراهية والغير والخطيئة يتنصل الشاعر وينآى بنفسه أن يكون واحدًا منهم ، فليسترح ضميره فلم يكن على الخطيئة ليفري القلب بالندم، كل ما هنالك أن يده امتد يومًا لتنال بعض حقها، وهنا ينتظر الفرج والخلاص ليقول إني (آنستُ) نارًا لعله يستضيء منها بقبس يكشف الظلمة بنور يهتدي بها في الطريق وينبت (التــــينِ والزيتـــونِ ) وتسلم النفس ويرتاح القلب .
ولكن مازال الألم؛ لأن الوضع ما زال قائمًا، وهنا لا يجد الشاعر من أمان وسلام إلا على صفحة الدفاتر لترسي سفينة نفسه وتستقر على (الجُودي) فتأمن كما أمنت سفينة نوح واستقرت حتى لو بعض الوقت، فإن كان الاستقرار كــ "دمٍّ كاذبٍ " ككذب إخوة يوسف حين جاءوا به ، فإن لغة الشعر سيف يحتمي به صاحبه ولو بعض الوقت.
ثالثًا: سيمياء بناء الشخصيات:
اعتمد الشاعر على الرمزية التاريخية أو الدينية في رسم شخصياته، فيكفي ذكر يعقوب ليتشكل البناء الخارجي للفقد المؤلم لنور العين وظلام الحياة، هنا أجاد الشاعر في التوظيف المناسب للرمز في نصه الشعري؛ لأنه أعطى النص بعدًا و حرکة فاعلة في كلماته ودلالاته، اجتاز الحاضر إلى الماضي في تناسق وتناغم بديع، فمتى ما أحُسن اختيار الرمز المعبر عن الفکرة التي يطرحها النص كانت جودة النص وإبداعه. وقد دمج الشاعر الحاضر بالماضي عن طريق الإسقاطات ليرسم نفسه بصورة الحزين المتهالك المتخط في دروب اليأس لما وقع عليه من الظلم والاغتراب، الوحيد الذي يحاول البحث عن يد تؤازره أو كلمة تسنده وتطمئنه أنه على الحق، فلا تيأس وواصل المسير. هنا الشاعر جاء بفريقين من الشخصيات الرمزية تشكل واقعه المرير؛ فالفريق الأول؛ يعقوب، ويوسف (المسجون) وموسي حين أنس من جانب الطور نارًا، أما الفريق الثاني؛ زليخة، وأخوة يوسف، وكأنه شكل القصة بفريقين من الشخصيات وهو يمثل أحد الفريقين وهو بالطبع يعقوب ويوسف وموسى عليهم السلام.
رابعًا: سيمياء الزمان والمكان والعلاقة:
يعد المـكان والزمان مركزان للأحداث، إذ يمنحان الهوية للشخصيات، ويحددان انتماءها الطبقي؛ ذلـك لاستحالة بناء الحدث والشخصية في مكان أو زمان لا ملامح لهما، كما أن المكان والزمان يوصل الإحساس بالفكرة ويجسدها كلقطة سينمائية معبرة تموج بالحركة والتفاعل، وهنا بناء القصيدة وتناميها يبلور في ذهن المتلقي عددًا من الأماكن والأزمنة المختلفة، فالأماكن أولها مكان الشاعر نفسه في اللحظة الآنية، هنا يتبلور المكان في ذهن المتلقي وكأنه في غرفته أمام مرآته ليتكاشف مع نفسه ويعيد تراتبية خطواته؛ ليكتشف أهو على صواب، أم كان على الخطأ والخطيئة، مكان يجسد الشاعر أمام نفسه بتجهمه وشوقه لثبات الوقوف. ثم يتابع في تنامي القصيدة رسم الأماكن الأخرى، فيأتي السجن بذكر المسجون، والأرض واختناقها بالألغام، و جبل الجودي.
أما الزمان فصياغته ظهرت واضحة في القصيدة، وأفادت في إظهار الكثير من الجوانب المبهمة، فذكر مبضع الأيام والسبع العجاف، وأزمنة الشخصيات الرمز ليصوغ الزمان بطريق المفارقات التي تتمثل في بنيتي الاستباق والاسترجاع، هنا زمن الشاعر في اللحظة الآنية، ومع تنامي القصيدة يتنقل من زمن إلى آخر بالاسترجاع، زمن "يوسف" وإخوته، والسبع العجاف، ثم زمن "نوح" عليه السلام حين استقرت سفينته على الجودي في أمل لاستقرار سفينة الشاعر ورسوها إلى مرسى السلام والأمان. وزمن "موسى" حين آنس من جانب الطور نارًا، لقد استطاع الشاعر هنا تناول الزمن المرتبط بالشخصيات المحورية الفاعلة حين قام باستحضارها من الماضي بواسطة الذاكرة، والومضة، ذكر خاطف لها ينبيك بكل الفكر وخوالج النفس والمسكوت عنه، فترى عملية انتقال من وضعية لا واعية إلى وضعية واعية، من وضعية الشاعر المتخبط في أيامه وأحواله إلى وضعية تلك الشخصيات فيستمد منها النور الذي يهديه ويرشده في نهاية المطاف .
خامسًا: سيمياء الأحداث الواردة:
تبدأ أحداث القصيدة بوقوف الشاعر أمام نفسه، وقد استخدم خياله لينتزع به من نفسه توأمًا له ليحادثه فيجسد الفكرة التي يريد، فالخيال بساط الريح الذي يحمل الشعراء، والشاعر يتكئ أكثر ما يتكئ في فنه على الخيال، خاصة إذا أراد ذكر بعض القضايا التي قد تَدِقُّ على كثير أو على قليل من الأفهام.
في القصيدة ساق الشاعر الكثير من القضايا صياغة مبهمة، لا يفهمها إلا من وعى الأحداث وشارك معاناة الشاعر ذاته، هنا غربة وشتات، هنا ظلم وجور، هنا أمل رغم المعاناة والألم ، كل ذلك صاغه الشاعر وقدمه في صور بديعة مبهرة، ذاك الابهار الذي تسعى إليه الأخيلة؛ أن تقدم صورًا طريفة بديعة لمدركات الواقع بما يُرهف الحس، ويُمتع النفس بمطالعة صورة من صور الجمال الفني التي تجعل المتلقي إذا طالعها التبست عليه بالحقيقة أو تكاد، وهنا تتفاوت منازل الشعر بتفاوت الشعراء في قوة التخيل، ورهافة الحس، ودقة الصياغة، وبراعة الأداء.
والصورة الشعرية غالبًا ما تقوم على المبالغة، والمبالغة الشديدة حد الكذب، وقد قال المتقدمون: إن أَعذب الشعر أكذبه، وهذا كلام صحيح إذا اتجه على أن أعذب الشعر ما كان من نسج الأخيلة لا ما وقع على مُجرد تقرير الحقائق الثابتة، ولكننا إذا تحولنا بالنظر إلى ناحية أخرى من نواحي هذا الموضوع رأينا كذلك أن أعذب الشعر أَصْدَقُه، ولسنا نعني بالصدق هنا المطابقة للواقع، وإنما نريد به الصدق في الترجمة عن شعور الشاعر، فأعذب الشعر في الواقع هو الذي يَنْفُض عليك ما يعتلج في نفس الشاعر، وما يتمثل لحسه في إدراكه للأشياء.
وهذا ما فعله الشاعر في القصيدة، فقد صور واقعه بصورة صادقة مطابقة للواقع واستخدم في ذلك الألفاظ القوية السهلة والمعبرة والمجملة في معانيها، فابتعد عن الغريب من الألفاظ، لأن الألفاظ والكلمات مدخل كل نص شعري، وهي المكونة للصورة وهي الدالة على التجربة الشعرية، وترتبطُ بالمعنى، كلما قويت الألفاظ قويت المعاني والصور الشعرية.
سادسًا: سيمياء الصورة الشعرية:
القصيدة من أولها إلى آخرها قائمة على الصورة الشعرية المعبرة عن ثقافة الشاعر ومرجعياته الفكرية وكل العوامل الذاتية والموضوعية التي أسهمت في صياغة تجربته الشعرية والصور التي عبرت عن انشغالاته وهمومه الفكرية والنفسية والاجتماعية. فقام باختيار البحر الشعري هو بحر الكامل الذي يتميز بعذوبته وسلاسته، فهو سهل نسبيًا، فإن اقترن بقافية سهلة كالنون أو الميم المكسورة مثلا ازدادت سهولته. لذلك فقد امتطاه جمع من أهل النظم، فنظموا فيه المطولات.
كذلك عمد الشاعر الانتقاء بين الألفاظ سعيًا وراء ما يمكن أن يخدم مقصده، ويقدم صورة تقريبية لما يعتمل في ذهنه وأعماقه منسجمة مع السياق النفسي له، بل السياق الثقافي العام، ومع الاختيارات الفنية والجمالية التي أقرها المجتمع الأدبي، واستساغها الذوق الفني السائد. لأن الشاعر يبقى دائما ابنا وفيا لبيئته، ولسانا صادقا حاملا لرؤية المجتمع الثقافي الذي ينتمي إليه. ولذلك تجد التجارب الشعرية المنتمية لسياق تاريخي أو ثقافي معين، قد انطبعت بالطابع الفني الذي تميز به ذلك السياق، فلا يرسمها رسمًا مباشرًا وإنما تحتاج إلى إعمال الفكر فيها، خاصة إذا كان التعبير المباشر فيه من المضرة فنيًا واجتماعيًا.
هنا اعتمد الشاعر الصور المجملة، التي تسع لسرد جمالياتها الصفحات وتقول هل من مزيد، فهنا قوله:
وجهًا لوجهٍ والمسافةُ بيننا
قلبي الجريحُ ومِبضعُ الأيامِ
هنا تكمن جمالية التصوير في البيت السابق، أنه اختصر الكثير من المعاناة في القليل من الكلام، وهذا هو روعة الإيجاز، فمبضع الأيام يجسد السنوات، بل العمر كله بابتلاءاته في كلمتين فقط تطبع العديد من الصور المجسَّدة في ذهن المتلقي ما يجعله ينجذب بكليته إلى ما يطرح عليه من فكر ومعان، إنها صورة مبدعة أجملت معاناة الشاعر وما ترتب على تلك الصورة من معان في الأبيات التالية في قوله :
صافحتُني وعيونُ يعقوبي تقيـ
سُ مواجعي بالحزنُ والآلام
ساءلتُني مَن أنت؟ ردَّ بحرقةٍ
أنا يا ظلومُ حُطامكَ المترامي
أتُرى ظلمتك ؟ لم يكن حُكمي شديـ
دًا كنتُ أحكمُ بالفؤاد الظامي
حقًا ظلمتك؟! وانحنى من أضلعي
قلبٌ تمزقَ غربةً بسهام
هنا آثر الشاعر قول "يعقوبي" ولم يقل "يعقوبٍ" قصدًا ليجسد شدة المعاناة والمواجع، وكأن حزن يعقوب قد جُسد من أجله هو دون غيره ليحوله إلى الحطام المترامي عبر ابتلاءات الأيام والسنين، هنا يتبلبل الشاعر وتضطرب خوالجه وتتعثر الأقدام في المسير فتتوقف ليتبين الطريق، ربما تكون على خطأ، يتجسد ذلك في تساؤلاته؛ ساءلتُني مَن أنت؟ أتُرى ظلمتك ؟ حقًا ظلمتك؟! تلك التساؤلات التي نفضت أعماقه ليسترجع ذكرياته التي تعضد من مواقفه وتؤازره في محنته وتبرر ما كان عليه وسعى إليه، ويأتي تكرار الاستفهام ليجسد بلبلة الشاعر وحيرته، فيسأل ويجيب على نفسه ما يهدئ من روعه في قوله:.
الحب؟! ما في الحبِّ كسرةُ خاطرٍ
ودموعُ مشتاقٍ وموتُ كلام
واسأل أولاتِ العشقِ كيف خذلنني
وملأنها زبَدًا كؤوسُ مُدامي
حتى أنا أحببتُ نفسي مرةً
فأبتْ تحنُّ وأنكرتْ أيامي
إنه ينكر أن يكون الحب كاسرًا للخواطر يهدر الدموع ويخذل المحب بقطع الوصال نعم إنه لم يجد الحب الحقيقي، فلو وجده لما كُسر الخاطر، واهدرت الدموع، وقطع الكلام فلا وصال. وفي الأبيات نجد فعل الأمر في قوله (واسأل أولاتِ العشقِ كيف خذلنني ) فهو أسلوب تنزاح فيه المعاني إلى اتجاهات جديدة، يحددها سياق الكلام لتتسع دائرة المعاني التي يدور عليها فعل الأمر، وتعظم دلائله ، وتتعدد إيحاءاته، مما يدل على جمالية طرائقه بأشكال لافتة للنظر تحمل شحنة انفعالية متعاظمة في نفس المتكلم الآمر كما نرى في الأبيات، ويكون أسلوب الأمر أقوى رادع، لكل لائم، وهنا يدرك موضع الألم فيشير إليه قائلاً:
يا أيها المسجون قل لزليختي
إنــي وحـــقِ الله خَــــيرُ إمـام
ما كان للذنبِ الذي في داخلي
يعدو على حُلمي الأبي السامي
فأرحْ ضميركَ لستُ أخوةُ يوسفٍ
لكنها السبعُ العِجافُ أمامي
هذه الأبيات انتشلت الشاعر من هوة الشك وحمل الخطأ والخطيئة، فاثبت أيها المسجون إنك يوسف ولست بإخوته، فلا تحمل نفسك الملام، وأرح ضميرك من عذاب التأنيب والملام، إنها الأيام بظلمها وقسوتها كقسوة السنين السبع العجاف. وهنا أسلوب النداء يلتمس الرحمة بحسن الظن، ثم يستتبع النداء بالأمر والطلب، مما أضفى لغة الحوارية التي تجسد اللوعة والأسى والمشاعر الحزينة في قلب الشاعر ، وأيضًا نستشعر في النداء التعبير عن الحب، وتقريب المسافة بين الشاعر والمتلقي ولفت انتباهه، فمنذ العصر الجاهلي والنداء يحبه الشعراء ويوظفونه للتنفيس عن مشاعرهم، أو لفت انتباه مسامعهم، أو للقرب من مقصودهم، ،فالنداء وسيلة لُغوية لاستدعاء المتلقي، ما يلفت الانتباه لما يطرحه من مطالب بعد النداء والاستدعاء، وهنا أحسن الشاعر في اختيار ألفاظه بما يوافق المعنى تمامًا. هنا النداء ليس غرضه الاستدعاء وفقط، إنه يدافع عن نفسه، عن شيء يقصده، فهو وإن خفي المقصد فنتيجته محتومة، إنه يحاول أن يلقي رجة في نفس المتلقي ليراجع أفكاره ومواقفه من خلال التهويل المنبعث من النداء وما يجمل من معنى. إنه يؤكد أن هذا الملام ليس في موضعه ، هي فقط سبع عجاف وسوف تنزاح كم انزاحت في زمن يوسف عليه السلام. ثم يأخذ المتلقي إلى غاية مغايرة ، وكأنه يريد تثبيت اليدين المرجوفة والأقدام المهتزة فيقول:
ماذا عنِ الوطنِ الذي غادرتهُ
غادرتهُ وضحكتُ مِن أوهامي
ما كان لي وطنٌ يموتُ بذلةٍ
ويباعُ باسمِ الحربِ للأقزام
وطني إلى (آنستُ) نورًا ينتمي
للتــــينِ للزيتـــونِ للأقــلام
هنا يحيك الشاعر صورة مجازية تسمح بقول ما هو مختلف عما نراه، يبغي الشاعر من خلالها بيان تهافت أمر ما، أو إثبات أمر ما مناقض لما يطرحه بطريقة ساخرة بعض الشيء، هو ليس مذنبًا ، هو فقط حلم أراد تحقيقه ، هنا السخرية صاغت صورة بلاغية أراد أن يقنع متلقيه بها بالقيم الإيجابية. فالخطاب الساخر يعتبر أشد الأساليب تأثيرًا ولفتًا للانتباه. هنا يلتمس راحة الضمير والكف عن الملام والتركز على الأهم باستئناف الطريق، بالتفكير في الوطن الذي غادره واحترق بنار الاغتراب عنه، فلابد أن يسير حتى يصل إلى النور كما وصل "موسي" عليه السلام حين قال "إني آنست نارًا" فكان عندها الفرج والمكرمة، إنه وجد طريقًا لراحة الضمير، أن يفرغ همه في التفكير في الوطن وشئونه حتى الوصول به إلى بر الأمان ، بل هناك ثمة طريق آخر، يريح الشاعر من معاناته حدده حين قال:
ماذا عنِ الشعرِ الذي أحببتهُ؟
ما زلتُ أجمعُ في يديهِ رُكامي
أُحصِي على يدهِ المَنايا والمآ
سي واختناقَ الأرض بالألغام
أرسو على الجُودي فوقَ دفاتري
وأصيحُ باسم الحبِّ والإسلام
ما زلتُ أختصرُ المسافةَ بيننا
وأسنُّ مِن لغةِ المَجاز حُسامي
حتى وإنْ جـــاءوا بــدمٍّ كاذبٍ
فالشــعرُ يَبقى أجـملَ الآثام
نعم هو طريق الشعر الذي يشحذ الهمم ويقوي العزائم، فهو سجل الحياة الواقي من الموت والفناء ، يلملم الآهات وما تكسر من حطام النفس ليجبر بعض كسرها، هو جبل الجودي التي ترسو عليه سفينة الشعراء لتصل إلى بر الأمان والسلام، نعم إنه متنفس الشعراء و الحسام الذي يجلو الهموم عن القلب بحملها بين دفتيه.
رحم الله الشاعر مهند حليمة رحمة واسعة .
.
.
...منال